فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

{قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ}
وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربًّا لجميع الخلق لأمرين:
أحدهما: لأن الناس معظمون، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا.
الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم.
{مَلِكِ النّاسِ إلَهِ النّاسِ} لأن في الناس ملوكًا، فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم.
{مِن شَرَّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ} الخّناس هو الشيطان، وفي تسميته بذلك وجهان:
أحدهما: لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: {فلا أُقْسِمُ بالخُنَّس} يعني النجوم لاختفائها بعد الظهور.
الثاني: لأنه يرجع عن ذكر الله، والخنس الرجوع، قال الراجز:
وصاحب يَمْتَعِسُ امْتِعاسا ** يزدادُ من خَنسِه خناسا

وأما {الوسواس} ها هنا ففيه وجهان:
أحدهما: أنه الشيطان لأنه يوسوس للإنسان، وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله: {الوسواس الخناس} قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس، فعلى هذا يكون في تأويل الخناس وجهان:
أحدهما: الراجع بالوسوسة على الهوى.
الثاني: أنه الخارج بالوسوسة في اليقين.
الوجه الثاني: أنه وسواس الإنسان من نفسه، وهي الوسوسة التي يحدث بها نفسه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله تعالى تجاوز لأمتى عما وسوست به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به».
{الذي يُوسْوِسُ في صُدورِ النّاسِ} وسوسة الشيطان هي الدعاء إلى طاعته بما يصل إلى القلب من قول متخيل، أو يقع في النفس من أمر متوهم ومنه الموسوس إذا غلب عليه الوسوسة، لما يعتريه من المسرة، وأصله الصوت الخفي، قال الأعشى:
تسمع للحلْي وسواسًا إذا انصرفت ** كما استعان بريح عشرق زجل

{من الجِنّة والنّاسِ} أما وسواس الجنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه، وأما وسواس الناس ففيه وجهان:
أحدهما: أنها وسوسة الإنسان من نفسه، قاله ابن جريج.
الثاني: أنه إغواء من يغويه من الناس.
قال قتادة: إن من الإنس شياطين، وإن من الجن شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ حسنًا وحسينًا فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عْينٍ لامّةٍ، ونحن نسعتيذ بالله مما عوذ ونستمده جميل ما عوّد.
وفقنا الله وقارئه لتدبر ما فيه وتفهم معانيه، فيه توفيقنا وعليه توكلنا، والحمد لله وحده وكفى، وصلواته على رسوله محمد المصطفى، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
{الوسواس} اسم من أسماء الشيطان، وهو أيضًا ما توسوس به شهوات النفس وتسوله، وذلك هو الهواء الذي نهي المرء عن اتباعه وأمر بمعصيته والغضب الذي وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه وتركه حين قال له رجل أوصني، فقال: لا تغضب، قال زدني: قال: لا تغضب، وقوله: {الخناس} معناه: على عقبه المستتر أحيانًا وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد وتعوذ وتذكر فأبصر كما قال تعالى: {إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201]، وإذا فرضنا ذلك في الشهوات والغضب ونحوه فهو يخنس يتذكر النفس اللوامة بلمة الملك وبأن الحياء يردع والإيمان يردع بقوة فتخنس تلك العوارض المتحركة وتنقمع عند من أعين بتوفيق، وقد اندرج هذان المعنيان من الوسواس في قوله تعالى: {من الجنة والناس} أي من الشياطين ونفس الإنسان، ويظهر أيضًا أن يكون قوله: {والناس}، يراد به من يوسوس بخدعه من البشر، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كالشيطان، وكلهم قرأ {الناس} غير ممالة، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال النون من {الناس} في حال الخفض ولا يميل في الرفع والنصب، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فهيما وقرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، فيبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده، ففعل ذلك ثلاثًا، وقال قتادة رحمه الله: إن من الناس شياطين ومن الجن شياطين، فتعوذوا بالله من شياطين الإنس والجن. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس}
فإن قيل: لم خص الناس هاهنا بأنه ربُّهم، وهو ربُّ كل شيء؟
فعنه جوابان.
أحدهما: لأنهم معظَّمون متميزون على غيرهم.
والثاني: لأنه لما أمر بالاستعاذة من شَرِّهم أعلم أنه ربهم، ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم.
ولما كان في الناس ملوك قال تعالى: {ملك الناس} ولما كان فيهم من يعبد غيره قال تعالى: {إله الناس}.
و{الوسواس} الشيطان، وهو {الخناس} يوسوس في الصدور، فإذا ذُكِرَ اللهُ، خَنَس، أي: كفَّ وأَقصر.
قال الزجاج: الوسواس هنا: ذو الوسواس.
وقال ابن قتيبة: الصدور هاهنا: القلوب.
قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذَكَرَ الله، خَنَسَ.
قوله تعالى: {من الجِنَّة والناس} الجِنَّة: الجن.
ومن معنى الآية قولان.
أحدهما: يوسوس في صدور الناس جِنَّتهم وناسهم، فسمى الجن هاهنا ناسًا، كما سمَّاهم رجالًا في قوله تعالى: {يعوذُون برجال من الجن} [الجن: 6] وسماهم نفرًا بقوله تعالى: {استَمَعَ نفر من الجن} [الجن: 1] هذا قول الفراء.
وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوسًا للجن، كما يوسوس للإنس.
والثاني: أن الوسواس: الذي يوسوس في صدور الناس، هو من الجِنَّة، وهم من الجن.
والمعنى: من شر الوسواس الذي هو من الجن.
ثم عطف قوله تعالى: {والناس} على {الوسواس}.
والمعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس، كأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس، هذا قول الزجاج. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس}
أي مالكهم ومُصْلِح أمورِهم.
وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربًا لجميع الخلق لأمرين:
أحدهما: لأن الناس مُعَظَّمون؛ فأعْلَم بذكرهم أنه ربُّ لهم وإن عظموا.
الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم؛ فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم.
وإنما قال: {مَلِكِ الناس إله الناس} لأن في الناس ملوكًا يذكر أنه مَلِكُهُم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يُستعاذ به، ويُلْجأ إليه، دون الملوك والعظماء.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}
يعني: مِن شر الشيطان.
والمعنى: من شر ذي الوسواس؛ فحذف المضاف؛ قاله الفرّاء: وهو (بفتح الواو) بمعنى الاسم؛ أي المُوسوِس.
و(بكسر الواو) المصدر؛ يعني الوسوسة.
وكذا الزَّلزال والزِّلزال.
والوسوسة: حديث النفس.
يقال: وسوست إليه نفسه وَسْوسة ووِسوسَة (بكسر الواو).
ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحُلِيّ: وسْواس.
قال ذو الرمة:
فباتَ يُشْئِزه ثَأدٌ ويُسْهِرُهُ ** تَذَؤُّبُ الريحِ والوَسْواسُ والْهِضَبُ

وقال الأعشى:
تسمع للحلَى وسَوْاسًا إذا انصرفت ** كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

وقيل: إن الوسواس الخناس ابن لإبليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال: اكْفُلِيه.
فجاء آدم عليه السلام فقال: ما هذا يا حواء! قالت: جاء عدونا بهذا وقال لي: اكْفُليه.
فقال: ألم أقل لكِ لا تطيعيه في شيء، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظًا له؛ فجاء إبليس فقال: يا حواء، أين ابني؟ فأخبرته بما صنع به آدم-عليه السلام- فقال: يا خَنَّاس، فحيي فأجابه.
فجاء به إلى حواء وقال: اكفليه؛ فجاء آدم-عليه السلام- فحرَّقه بالنار، وذرّ رماده في البحر؛ فجاء إبليس (عليه اللعنة) فقال: يا حوّاء، أين ابني، فأخبرته بفعل آدم إياه؛ فذهب إلى البحر، فقال: يا خَنَّاس، فحيي فأجابه.
فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال: اكفليه.
فنظر؛ إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعًا.
فجاء إبليس فسألها فأخبرته حواء.
فقال: يا خَنَّاس، فحيي فأجابه (فجاء به) من جوف آدم وحوّاء.
فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم؛ فهو ملتقم قلب ابن آدم ما دام غافلًا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس.
ذكر هذا الخبر الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه.
وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم.
ووُصِف بالخناس لأنه كثير الاختفاء؛ ومنه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} [التكوير: 15] يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها.
وقيل: لأنه يَخْنِس إذا ذكر العبدُ الله، أي يتأخر.
وفي الخبر: «إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وَسْوس، وإذا ذكر الله خَنس» أي تأخر وأقصر.
وقال قتادة: {الخَنَّاس} الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خَنَس.
يقال: خَنَسْتُهُ فخَنَسَ؛ أي أخرته فتأخر.
وأَخنسته أيضًا.
ومنه قول أبي العلاء الحضرمِيّ أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإنْ دَحَسُوا بالشَّرّ فاعْفُ تَكرما ** وإنْ خَنَسُوا عندَ الحديثِ فلا تَسَلْ

الدَحْس: الإفساد.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خَنَس، وإذا نسِي الله التقم قلْبه فوسوس» وقال ابن عباس: إذا ذكر اللَّهُ العبدَ خَنَس من قلبه فذهب، وإذا غفل الْتَقَم قلبه فحدّثه ومَنَّاه.
وقال إبراهيم التيمِيّ: أوّل ما يبدو الوسواس من قِبل الوضوء.
وقيل: سمي خَنَّاسًا لأنه يرجع إذا غَفَل العبدُ عن ذكر الله.
والخَنَس: الرجوعُ.
وقال الراجز:
وصاحبٍ يَمْتَعِسُ امتِعاسًا ** يزدادُ إن حَيَّيْتُه خِناسا

وقد روى ابن جُبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {الوسواس الخناس} وجهين:
أحدهما: أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى.
الثاني: أنه الخارج بالوسوسة من اليقين.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)}
قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري مِن ابن آدم مجرى الدم في العروق، سَلَّطه الله على ذلك؛ فذلك قوله تعالى: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس}.
وفي الصحيح: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». وهذا يصحح ما قاله مقاتل.
وروى شَهْر بن حَوْشَب عن أبي ثعلبة الخُشنيّ قال: سأَلت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خَطْمًا كخطم الكلب، فإذا ذَكَر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه.
فعلى ما وصف أبو ثعلبة أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة.
وروي عن عبد الرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين أنه قال وقد كبِر سِنه: ما أمِنت الزنى وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده! فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل.
ووسوسته: هو الدعاء لطاعته بكلام خفٍيّ، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
أخبر أن الموسوِس قد يكون من الناس.
قال الحسن: هما شيطانان؛ أما شيطان الجنّ فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجنّ شياطينَ، وإن من الإنس شياطين؛ فتعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ.
وروي عن أبي ذرّ أنه قال لرجل: هل تعوّذت بالله من شياطين الإنس؟ فقال: أوَ مِن الإنس شياطين؟ قال: نعم؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112]...
الآية.
وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد بهم الجن.
سموا ناسًا كما سموا رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} [الجن: 6] وقومًا ونفرًا.
فعلى هذا يكون {والناسِ} عطفًا على {الجِنةِ}، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين.
وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث: جاء قوم من الجن فوقفوا.
فقيل: مَن أَنتْم؟ فقالوا: ناس من الجن.
وهو معنى قول الفرّاء.
وقيل: الوسواس هو الشيطان.
وقوله: {مِن الجِنةِ} بيان أنه من الجن {والناسِ} معطوف على الوسواس.
والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجِنة، ومن شر الناس.
فعلى هذا أمِر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن.
والجِنَّة: جمع جِنِّي؛ كما يقال: إنس وإنسيّ.
والهاء لتأنيث الجماعة.
وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس.
فعلى هذا يكون {في صدور الناس} عامًا في الجميع.
و{من الجِنة والناس} بيان لما يوسوس في صدره.
وقيل: معنى {مِن شر الوسواسِ} أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس.
وقد ثبت:
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم.
فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك. اهـ.